العلّامة الأديب عبدالله بن خميس:
لم أكتب قصيدة في سفر
90 عامًا من الإبداع في شتى الميادين.
حوار: عبدالعزيز العريفي
§ رحلتي الأولى كانت إلى بيروت عام 1955 على متن الداكوتا
§ أفضّل السفر عبر السيارة لأنها تبقيني على صلة مباشرة بجميع المعالم الجغرافية التي أمر بها، والتي أحتاج إليها في مجال التدوين والتوثيق
§ لم يتح المجال لقصيدة أن تولد وتتناسل وأنا على جناح السفر
§ دحل الهشامي جئناه طالبين الماء فعدنا وكلنا دماء!
هو عبدالله بن محمد بن خميس، أحد أدباء الجزيرة البارزين، وباحث في آدابها ومعالمها، ولد بقرية «الملقى» إحدى ضواحي الدرعية، وذلك في سنة 1339هـ، وفي السابعة من عمره التحق بكتاب قريته، وحفظ القرآن، ومبادئ القراءة والكتابة والحساب، ثم التحق بدار التوحيد بالطائف سنة 1364هـ، ثم بكليتي الشريعة واللغة العربية في مكة المكرمة، ويحصل على شهادتيهما، ويعين بعد تخرجه مباشرة مديرًا لمعهد الأحساء العلمي.
وقد تقلب ابن خميس في العديد من الوظائف المهمة، واختير عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وعضوًا في المجمع العلمي العراقي، كما أنه مثَّل المملكة العربية السعودية في العديد من المؤتمرات والملتقيات الأدبية، باحثًا وشاعرًا ومناقشًا.
وشأن الكثير من الأدباء المعاصرين، فقد توثقت علاقة ابن خميس بالصحافة، كاتبًا، ومراسلًا، ومحررًا، ومؤسسًا، فقد عمل مراسلاً لليمامة التي كان يصدرها الشيخ حمد الجاسر، وكان ابن خميس آنذاك طالبًا بكليتي الشريعة واللغة العربية بمكة، كما أصدر مجلة الجزيرة، بعد أن تخرج، وكانت مجلة الجزيرة مجلة اجتماعية أدبية سياسية، تصدر كل شهر، وقد عنيت عناية خاصة بشؤون الشباب، كما عنيت بالأدب الشعبي الذي أعطاه ابن خميس قدرًا كبيرًا من جهده وحياته.. دعونا نرحل معه في رحلة قصيرة نجوب بها معالم في حياته.
هل سبق أن سافرتم بالطائرة؟ ومتى كان ذلك؟
كانت الرحلات في الزمن القديم تعد مجازفة بالحياة، ومغامرة بالمال، والوقت، والراحة، سواء كانت لطلب علم، أو تجارة، أو سياحة. ولم يكن التنقل والأسفار خاصًا بأهل العلم والأدب، ورجال البحث والآثار، بل كان على الغالب يقوم به رجال التجارة وأرباب الأعمال منذ زمن رحلات الشتاء والصيف.
ويتداعى إلى ذهني الآن رحلتي إلى دمشق عام 1955 بعدما كان وقتها التفكير في رحلة إلى الأقطار العربية حلمًا يداعبني منذ أمد. ولكن ظروفي لم تخولني أن ألبي هذا النداء الشيق إلا في شهر رمضان، فقررت أن أقضي شهر الصوم جميعه في دمشق، وفي استطاعتي هناك أن أؤدي العبادة مع عمل تنقلات واستكشافات.
كان عليّ وقتها أن أذهب إلى مطار جدة لتلك الليلة لأحجز مركبي في أول طائرة سعودية تسافر إلى دمشق، وبعد تناول طعام الإفطار قصدت مطار جدة فوجدت أن الطائرة لا تسافر إلا بعد يومين وأن هناك طائرة ستسافر بعد بضع ساعات إلى بيروت فرأيت أن لا مانع من السفر فيها، فما أقرب بيروت من دمشق، وفي تمام الساعة الثانية عشرة كان ركاب الطائرة قد اكتملوا فيها، وحينئذ استقلت من أرض المطار، وهي ذات محركين من نوع «داكوتا»، وبعد ساعة ونصف الساعة من جدة كانت الطائرة تهبط بنا في مطار المدينة المنورة فنزل بعض ركاب الطائرة وركب آخرون، ثم استأنفت الطيران. وبعد ساعات طوال خرج علينا المضيف وأمرنا أن نشد الأحزمة على أوساطنا فقد أقبلنا على جبال سوريا ولبنان وقد تجللت بالسحب والثلوج، وهنا انقلب ذلك الطيران الهادئ إلى شكل آخر فقد علا هزيم الطائرة، وولى النوم هاربًا عن سكان الطائرة وهي تصارع داخل هذا العالم العلوي المتكاثف بشدة، وحتى تبدى لنا أخيرًا بين فجوات السحب خضرة الأرض، وبحر بيروت اللجي الخضم.
والحق أنني حيال هذا المشهد الرهيب في أجواء الفضاء، وفي عنفوان المصارعة بين الطائرة والمؤثرات الجوية قد أكبرت من قدر هؤلاء الذين خدموا الإنسانية، إلى هذا الحد وسمت بهم أفكارهم ومداركهم إلى منزلة ما كان يدور في الخلد أن ينالها إنسان، ولكنه العلم! فمتى نأخذ منه بالسهم الوافر والنصيب الأوفى.
هل يستهويكم السفر بالطائرة، أم أنه نوع من الرعب والإجهاد لذاتكم؟
أفضل دومًا السفر عبر السيارة، وأكتشف المحيط الجغرافي والبيئي للجزيرة العربية وما جاورها، لا سيما أن الرحلات عبر السيارة تبقيني على صلة مباشرة بجميع المعالم الجغرافية التي أمر بها، والتي أحتاج إليها في مجال التدوين والتوثيق، أتقصى التضاريس، وأتتبع الآثار بصورة مباشرة، لذا لا أعتقد أنني العميل المفضل للخطوط الجوية، وإن كنت قد سافرت في الطائرة عبر رحلات متقطعة، ولكن ليست كثيرة.
هل يمكن لقريحة الشعر أن تحلق في سماء مخيلتكم وأنتم داخل طائرة تحلق في الغمام بين السماء والأرض، أم أنكم تعدون ذلك نوعًا من المعاناة القادحة لمكامن الإبداع؟ فإن كان الأمر كذلك فهلا أتحفتمونا بقصيدة جادت بها قريحتكم وأنتم داخل الطائرة على ارتفاع 30 ألف قدم؟
عندما تحضر القصيدة أو مطالع الأبيات الشعرية فتكون عبر حالة من الجيشان الوجداني والعاطفي الذي يتطلب مقدارًا من السكينة والتأمل في أثناء سكب الأبيات على الورق، وإن كنت خلال رحلاتي بالطائرة تلوح في خاطري بعض مطالع الأبيات، ولكن ندرة سفراتي عبر الطائرة وضيق الوقت، لم يتح المجال لقصيدة أن تولد وتتناسل وأنا على جناح السفر.
هل يرى أديب ملهم مثلكم أن العناية بالموروث الشعبي وثقافة السائد، وخصوصًا الشعر النبطي بمفرداته العامية، يعد نوعًا من الغزو الفكري المنبثق من الداخل، واجتياحًا مدمرًا للفصحى وتكويناتها اللغوية؟
دومًا نجد الشعر الشعبي يميل جهده إلى القرب من الشعر العربي، وإنك لتجد البيت يلفظ به بلهجة عامية ثم ترجعه إلى الوزن العربي واللغة العربية فتجده سليمًا مستقيمًا مثل ما ينشد ابن لعبون:
ينشدنني يوم انتوى الكل برحيل
«هل عند دارس من معول»
موافقًا امرأ القيس في شطر البيت.
ويقول محسن الهزاني في إحدى رباعياته:
وأهوى على ركن من الخيل كنه
«جلمود صخر حطه السيل من عل»
ونبتة الشعر الشعبي بزغت من فيافي الجزيرة وصحاريها، وهي ابنة هذه الأرض، بعد أن صارت جزءًا من التاريخ والإرث في الذاكرة الشعبية التي نستشهد بأبياتها، ونترنم ونطرب لها.
لذلك أدركت الأمم العريقة في المدينة والحضارة، ما لهذا اللون من الأدب من أثر في حياة الشعوب، وفعالية في توجيهها، وقيادتها، فأنشأت له المعاهد, وألفت فيه الكتب، وأنشأت له صحافة خاصة، وأصبحت له مدارس.
يا ترى ما الأحب إلى قلبكم وأرجى للقبول من متلقي إبداعاتكم في سياق الموضوعات المتنوعة التي تتناولونها عادة؟
ليس هناك موضوع بعينه، أو أمر يظهر في سياق مستقل عن سواه، لكن تشجيني وتؤسيني أمور الأمة العربية والإسلامية، والحال والمآل الذي انتهى إليه المسلمون في حاضرهم مقارنة بماضيهم التليد.
مَنْ مِنَ الأدباء والمثقفين الذين ترون أنه أو أنهم الأقدر على إثراء الساحة الثقافية والحراك المعرفي ببلادنا؟
لعلي الآن بعيد نوعًا ما عن الساحة الأدبية والفكرية، بحيث يقتصر اطلاعي على الجديد في عالم المخطوطات والكتب التراثية، وإن كنت لا أبخس حق الكثير من الأجيال الطموحة في الساحة، سواء من الأكاديميين أو سواهم من الأدباء والكتاب الذين يسهمون في المسيرة النهضوية والفكرية لهذه البلاد.
هل القصور في الوعي الثقافي لأدبنا ولغتنا الفصحى ناجم عن غزو الغرب الفكري لنا المتمثل في الفضائيات على وجه الخصوص، وفي الكتب المترجمة، والمجلات الهابطة، وبعض الصحف المشبوهة في المشهد الثقافي؟
لي أبيات أعظِّم فيها من دور الكلمة والشعر الأصيل الجزل قلت فيها:
بينما الكون صاخب مستطير
مفعم الوجوه بشتى العجائب
قد رأى الشعر نفسه في انطواء
ومع الدهر لا محالة ذاهب
فانبرى، حيثما انبرى الكون ثرا
عالي الصوت للشعوب يخاطب
يمقت الجهل والخمول ويرمي
كل داء في العالمين يثاقب
لا بد لشيخ جليل مثلكم، وعلم بحر لا يفيض له معين قد صال وجال في مسرح الحياة وترك بصماته في مشاهدها أن تكون له مواقف طريفة وأخرى ربما كانت عنيفة تختزنها الذاكرة وتدلف بوابة الخاطر بين الفينة والأخرى دون استئذان، فهل أشركتمونا ببعض ما تتذكرونه منها، خصوصًا ما كان له دلالات عميقة المعنى؟
لعله لا يحضرني الآن سوى حادثة حدثت لي قديمًا قبل دخول السيارات حيث كنت في رحلة مع بعض الرفقة على ظهور الجمال.
فألممنا «بدحل» في الصمان يسمى «دحل الهشامي»، فأردنا أن نأخذ ماء عذبًا من الدحل، ظانين أن ماءه قريب وأن مأخذه يسير، فانحدرت مع ثلاثة من رفقتي هم: منصور السبيعي، ومحمد القحطاني، وسعد الحطيم الدوسري، ثم ما لبث كل واحد أن تلبب قربته وصعد بعد أن استقينا من الدحل العميق، ولكن القرب تعرضت لنواتئ صخرية كأنها السكاكين في جوف الدحل، فمزقتها إلا واحدة، أيضًا أحد الرفاق ظل ولم يخرج من الدحل إلا بعد لأي، ولقد أخذت جوانب الدحل ونواتئه الحادة من ظهورنا وجنوبنا وبطوننا ما أخذ النجار من خشبته، وعدنا منه بالدماء، فما أصعبه موردًا! وما أقساه وما أغلى شرابه وأندره! وما ألذ الحياة والشباب يتعرض المرء فيه لمثل هذه الأحوال لتكون ذكريات صبا وأحاديث ذكريات! وقد قلت فيه:
وردتك أستقي فكلمت جسمي
فما أقساك يا «دحل الهشامي»
تقاضي الواردين دمًا بماء
رماك بثاقب الأفلاك رامي